فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث، وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الأمير عندنا: أن عليًا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه، حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها. فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائبًا. حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم- وهو أمير على المدينة في زمن معاوية- فقال: هذا عليّ جاء تائبا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل.
قال: فتُرك من ذلك كله، قال: وخرج عليّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعًا. اهـ.

.قال الخازن:

وقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} يعني لكن الذين تابوا من شركهم وحربهم لله ورسوله ومن السعي في الأرض بالفساد من قبل أن تقدروا عليهم.
يعني فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة {فاعلموا أن الله غفور} يعني لمن تاب من الشرك {رحيم} يعني به إذا رجع عما يسخط الله عز وجل وهذا قول معظم أهل التفسير أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية وأنه لا يطالب بشيء مما أصاب من مال أو دم.
قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك داعيًا لهم إلى الدخول في الإسلام، فهذا حكم المشرك المحارب إذا آمن وأصلح وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء بالأجماع، وأما المسلم المحارب، إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه.
فقال السدي: هو الكافر إذا آمن لم يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرده على أهله وهذا مذهب مالك والأوزاعي غير أن مالك قال يؤخذ بالدم إذا طلب به وليه، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك وهذا حكم علي بن أبي طالب في حارثة بن زيد وكان قد خرج محاربًا فتاب قبل أن يقدر عليه فآمنه علي على نفسه وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان بعد ما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائز بك أنا فلان بن فلان المرادي كنت قد حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض بالفساد وإني قد تبت من قبل أن يقدر عليّ.
فقام أبو موسى فقال: هذا فلان المرادي وأنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا وأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فلا يتعرض له أحد إلا بخير.
وقال الشافعي: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله ولا يسقط عنه بها ما كان من حقوق بني آدم من قصاص أو مظلمة من مال أو غيره وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام عليه الحدود وقال الشافعي: ويحتمل أن يسقط كل حد لله عز وجل بالتوبة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثنى جل وعَزّ التائبين قبل أن يُقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أمّا القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط.
ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدّم.
وللشافعي قول أنه يسقط كل حدّ بالتوبة؛ والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدميّ قصاصًا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود؛ وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضًا بالإجماع.
وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم والله أعلم لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم؛ كالمتلبس بالعذاب من الأُمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغَرْغَرة فتاب؛ فأما إذا تقدّمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة «يونس»؛ فأما الشرّاب والزناة والسرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعُرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدّهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غُلبوا.
والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وأما ما هو من حقوق العباد كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدًّا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصًا، فانهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا.
وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصًا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيهًا فقال بعد نقله وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلًا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصًا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له ولا واجب مطلقاف، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه قصاصًا، وإن جاز أو وجوب من حيث كونه حدًا فتأمله انتهى.
وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلًا في صفة القتل قصاصًا وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور الخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه وهو صحيح على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا الخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصًا، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئًا من قلة التأمل انتهى.
وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانًا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانًا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصًا فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرًا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} الخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضًا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.
وأيضًا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضًا، وسبب النزول لا يصلح مخصصًا فإن العبرة كما تقرر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالًا من قريش أن يستأمنوا له عليًا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليًا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانًا، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى الله عليه وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق الأوّل.
وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية، كما يدل عليه ذكر قيد {قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} قال: القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب، فإن قتل محارب أخا امرىء أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء، ولا يجوز عفو وليّ الدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والاستثناء بقوله: {إلاّ الذين تابوا} راجع إلى الحُكمين خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، بقرينة قوله: {مِن قبل أن تقدروا عليهم}، لأنّ تأثير التّوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيّد بما قبل القدرة عليهم.
وقد دلّت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة؛ فتمّ الكلام بها، لأنّ الاستثناء كلام مستقلّ لا يحتاج إلى زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب، وعند جمهور العلماء.
فليس المستثنى مسكوتًا عنه كما يقول الحنفية، ولولا الاستثناء لما دلّت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة.
فلو قيل: فإن تابوا، لم تدلّ إلاّ على قبول التّوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة.
ومعنى {من قبلِ أن تقدروا عليهم} ما كان قبل أن يتحقّق المحارب أنّه مأخوذ أو يضيَّق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه، فإن أتى قبل ذلك كلّه طائعًا نادمًا سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة، لأنّه قد دلّ على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه.
ولمّا لم تتعرّض الآية إلى غُرْم ما أتلفه بحرابته علم أنّ التّوبة لا تؤثّر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق النّاس من مال أو دم، لأنّ ذلك معلوم بأدلّة أخرى.
وقوله: {فاعلموا أنّ الله غفور رحيم} تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعجّب من سقوط العقاب عنهم.
فالفاء فصيحة عمّا دلّ عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرْم، والمعنى: إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمّن تاب قبلَ أن يقدر عليه فاعلموا أنّ الله غفور رحيم.
وقد دلّ قوله: {فاعلموا} على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظرًا لاستعظامهم هذا العفو.
وقد رأيتُ أنّ شأن فعل «اعلم» أن يدلّ على أهميّة الخبر، كما سيأتي في قوله تعالى: {واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه} في سورة الأنفال (24) وقوله فيها: {واعلموا أنّما غنمتم} [الأنفال: 41]. اهـ.